القائمة إغلاق

تجربة الدراسة والحياة في ألمانيا بالمختصر المفيد – ما الذي يجعل ألمانيا رائدة في مجالات الصناعة

لا شك بأن ألمانيا تعتبر من أكثر دول العالم جذبا للناس الذي يودون العيش بالعالم الغربي. فألمانيا تتحلى بصفات عديدة تجعلها من الدول الرائدة في عالمنا الحالي، خصوصا عندما نتكلم عن النظام التعليمي القوي والمعترف بكفاءته دوليا. فالمهندس أو الطبيب الألماني مثلا تسبقه سمعته في أنحاء العالم، فهناك لمع نجم آلبرت أينشتاين وغيره من عمالقة العالم. 

“Made in Germany”

من صفات ألمانيا الأخرى هي مكانتها الاقتصادية على مر التاريخ وقوتها الصناعية القابضة، يكفي على المرء أن يقرأ على أي منتج العبارة الشهيرة ” صنع في ألمانيا” أو “Made in Germany” حتى لا يتردد لحظة واحدة باقتناء هذا المنتج، لعمله التام بالجودة المصنعية التي يحظى بها هذا المنتج، بغض النظر عن كون المنتج سيارة أو “طناجر” لطهي الطعام. السبب وراء هذه الجودة والسمعة الحسنة التي تتحلى بها ألمانيا في عالم الصناعة والانتاج تعود من وجهة نظري الشخصية إلى النظام التعليمي الألماني، الذي رغم تعقيده فإنه شديد التشعب وعالي الجودة. لماذا؟ سأجيب على هذا السؤال فيما يلي.

التعليم في ألمانيا لجميع فئات المجتمع

ألمانيا تعتبر ثالث أكثر دولة جذبا لطلاب الخارج في العالم، نظرا لقوة شهادتها العلمية والتسهيلات الحكومية والخاصة التي يحظى بها الطالب خلال حياته الدراسية هنا (سنتطرق إلى هذه التفاصيل في مقال آخر). ولكن بغض النظر عن نظام التعليم العالي، فإن ألمانيا تقدم أيضا ما يسمى بالـ Ausbildung أو التأهيل المهني. فإذا لم يرغب الشخص بدخول الجامعة لصعوبتها أو لأي سبب يكن، فإنه بإمكانه الالتحاق بتأهيل مهني مدفوع الأجر (كأي وظيفة عادية بمرتب شهري  (خلالها يقضي المتعلم ما يقارب ثلاثة إلى أربعة سنوات من حياته يتعلم بها صنعة معينة، ك محلل كيميائي، كهربائي، ميكانيكي أو حتى كي يصبح جزار لحوم, حدادا، نجارا أو حلاقا.

هذه التخصصات اليدوية، أي ما ندرسه في بعض العالم العربي كـ دورة تدريب مهني لعدة شهور، مثلا في الرسم التقني في الأوتوكاد، يدرسه الألمان خلال عدة سنوات حتى يصلوا إلى مرحلة الإتقان والاحتراف التام. هذا المرحلة من الاحتراف تصنع من الشخص ما يسمى بالألمانية Fachmann أي مختصا أو خبير. ورغم أن هذه التخصصات توازي بمدتها الزمنية أحيانا التعليم الجامعي، إلا أن محتوياتها العلمية أقل بكثير، فالدراسة تكون غالبا يوما واحدا او اثنان بالأسبوع وبقية الأسبوع تكون في الميدان العلمي. وهذا فقط مثال واحد على سبب اتقان الألمان لكثير من التفاصيل في عالم الصناعة والإنتاج. فهذه التدريبات المهنية لا تنحصر فقط على مجال الصناعة، وإنما في مجالات كثيرة جدا تتعدى الـ ٣٢٠ مجالا، في الطب والصحة، في عالم الحيوان والنبات، التقنية، الفن والنحت، الرزاعة والرسم، وتتعمق بتفاصيل لو يراها شخص غير ألماني سوف يتساءل مباشرة: لماذا بحق الجحيم يتعلم أحدهم سنوات طويلة عن رسم مواسير الصرف الصحي وأنواعها، ومواد وطرق صناعتها لسنوات طويلة؟ أو لماذا يتعلم الجزار لشهور وسنوات طويلة تقطيع اللحوم وأنواعها وطريقة طبخها.  الإجابة هي ببساطة لأنه سيصبح معلما بهذا المجال ويحيط بكل جوانبه. وعندما يستدعي الأمر وجود محترف ومتخصص بالمجال، فإن هذا المختص هو أول من يلجأ إليه الناس في ألمانيا. ولهذا يسمى الشخص بعد تخرجه “Meister” أو بالإنجليزية “Master” أي سيدا في مجاله. مثال على ذلك هو Fleischmeister أي المختص باللحوم، وهو بالعربية اللحام أو الجزار. الفرق الوحيد أن اللحام الألماني يقضي عدة سنوات من حياته يدرس فن اللحوم قبل أن يعمل في الملحمة أو المجزرة. 

وهذه فقط نبذة صغيرة عن سبب جودة الألمان في مجالات عديدة، لأنهم يدرسون الشيء بعمق حتى مرحلة الإتقان. 

التعليم العالي خطوة كبيرة

ناهيك عن جودة التعليم الجامعي الذي تنافس فيه ألمانيا جامعات أوروبا والعالم. رغم أن التعليم في ألمانيا غير مجاني مقارنة بالدول الإسكندنافية التي تقدم تعليما شبه مجاني، إلا أن الرسوم المترتبة على من يرغب بالالتحاق بالجامعة في ألمانيا لا تعتبر شديدة الغلاء مقارنة مثلا بالولايات المتحدة أو الوطن العربي. بل وإن هناك الكثير من برامج الدعم المادي للألمان والأجانب لكونهم طلابا. فالكل في ألمانيا يحاول مساعدة الطالب، لأنهم يعتقدون بأن الطالب شخص فقير ويرون إصراره على الدراسة أمرا نبيلا يستحق الدعم. 

العقبة الكبرى للطلاب في نظام التعليم العالي الألماني هي صعوبة الحصول على الدرجة العلمية في ألمانيا، فأغلب التخصصات تقدم باللغة الألمانية ويترتب على إنهاء مادة جامعية معينة الكثير من الشروط والاختبارات الأولية قبل التأهل لدخول الاختبار النهائي الذي يهدف إلى إظهار كفاءة الطالب، وإنه قد فهم تماما ما يدور في المادة الدراسية دون أي مساعدة أو تلخيصات خارجية وأنه تعلم المادة طيلة الفصل الدراسي وليس عدة أيام قبل الامتحان. بل وأن أغلب المحاضرين لا يمتلكون منهجا أو كتابا معينا يتكلون عليه إنما قد يخبرك أحدهم: استعن بالإنترنت أو بالكتب من المكتبة، إذا فهمت كل فكرة قد تم طرحها بالمحاضرة، فسوف تنجح في المادة ولهذا قد يستغرق بعض الطلاب فصولا عديدة حتى ينجحون بمادة أو اثنتين، حتى يكونوا قد فهموا محتواها بشكل كاف للنجاح. قد يبدو الأمر صعبا في بداية الأمر عندما أحدثكم عنه بهذا الشكل، ولكن… بالعكس تماما، فمحدثكم أنهى دراسة تخصص هندسي يعد من أصعب التخصصات الموجودة في ألمانيا بدرجة امتياز وتفوقت حتى على الطلاب الألمان رغم حداثة عهدي باللغة حيث بدأنا وقتها في بداية العام فوق المائة طالب بالدفعة وانتهى الأمر ب ٢٠ طالب متبق رغم أن ٤ منهم أنهو التخصص بوقت مناسب. السر يكمن بفهم الطريقة الصحيحة للاندماج والدراسة على الطريقة الألمانية (وسنتطرق إلى هذه التفاصيل في مقال آخر).  

الحياة الاجتماعية المتعارف عليها

نقطة أخرى مهمة تجعل ألمانيا مكانا جذابا للعيش هي الحياة والتسهيلات الاجتماعية ومجال العمل الواسع. فأغلب الطلاب يتجهون إلى العمل خلال دراستهم في ألمانيا. مقالة حديثة بالصحافة الألمانية أظهرت أن ثلاثة أرباع الطلاب في ألمانيا يعملون خلال دراستهم لكسب لقمة العيش. العمل يتشعب بمجالات عديدة فكثيرون يتجهون إلى المطاعم والضيافة لأداء أعمال سهلة بأجر طفيف. وآخرون يعملون خلال دراستهم بمجال تخصصهم بشركات عالمية وبأجور جيدة جدا. الامر يتعلق بجودة الطالب، طموحه وحنكته وطريقة تقديمه لنفسه. 

نظام الحياة الألماني مبني على العمل المستمر، فالحياة بلا عمل هنا يراها الناس كحياة بائسة وعديمة الجدوى. ولهذا فإن الشعب الألماني شعب يحب العمل جدا، بل ويفني حياته وأغلب وقته في العمل. وهذا عامل أساسي لنجاح ألمانيا كدولة صناعية رائدة، أن شعبها وعامليها يرون أن عملهم جزء مهم جدا من قصة حياتهم وأن السنوات التي يجب عليهم تكريسها للعمل شيء مسلم به. ولهذا فأن نظام العمل الألماني نظام مفصل جدا وحقوق الموظف ورب العمل واضحة ولا نقاش فيها. 

بغض النظر عن كون الشعب الألماني شعب منتج ومحب للعمل، فهو أيضا شعب يحب المرح والسفر في أوقات الفراغ. وقت الفراغ أو الإجازة هي شيء مقدس عند الألماني، تماما كقدسية العمل. بل وإن قانون العمل ينص على وجوب أخذ استراحة وإجازة لأنها حق من حقوق الموظف لضمان انتاجيته، ولهذا فإن الألمان يعملون طيلة العام بجد وتعب، ويحرصون أشد الحرص على انتهاز وقت الفراغ والسفر وزيارة البلدان التي تشرق بها الشمس كثيرا. فالشمس هنا عملة نادرة. 

الدافع الشخصي لتدوين الرحلة

من الأمور التي دفعتني إلى الانتقال إلى ألمانيا هو أولا إعجابي بهذه الثقافة المتعلقة بالعمل الجاد والإتقان والدقة وثانيا هو إعجابي الشديد بالصناعة الألمانية، الأدب والفلسفة الألمانية منذ طفولتي. لازلت أذكر أكوام الكتب والقصص القصيرة التي كانت مصطفة بجوار سريري من الأخوين قريم Brüder Grimm  مثل حكاية بياض الثلج والأقزام السبع، الأمير الضفدع، سندريلا او ليلى والذئب. وعندما كبرت قليلا تعمقت في الفلسفة الألمانية كان القليل من هيغل، إيمانويل كانط وربما بعض من فريدريك نيتشه رفقيا لي قبل النوم. ناهيك عن مجالات العلم التي أثبت بها كثير من الألمان مثل اينشتاين أو ماكس بلانك جداراتهم العلمية. وحتى الأدب الألماني المشهور من جوته وهيرمان هيسه أو رواية العطر الشهيرة من باترك زوسكيند. كل هذه العوامل دفعتني وحمستني أكثر كي أتعرف على عمق الثقافة الألمانية. 

وربما من أكثر المواضيع أهمية في حال قررت الدراسة أو العيش في ألمانيا هو أولا إلمامك التام باللغة الألمانية وثانيا فهمك لطريقة التفكير والمنطق الألماني. هذه المهمتان ليستا بالمهمتين السهلتين أبدأ. فاللغة هي لغة معقدة نوعا ما ومميزة لكونها جامعة للمعاني، أي أن كلمة واحدة قد تتكون من عدة كلمات لإيصال معنى واحد (سنتطرق لهذا لاحقا أيضا). إيجادك للغة الألمانية عامل مهم جدا، فإيجادي التام للغة الألمانية حتى دون لهجة أجنبية واضحة قد أعطاني قبولا كبيرا في أيام الدراسة ولاحقا في مجال العمل. فالألمان يعشقون هذه الصفة عندما يرون أن أحدهم قد عمل بجهد كبير حتى أتقن اللغة بهذا الشكل. فكما ذكرت سابقا، الألمان يحترمون العمل والجد والاتقان. وإتقان اللغة ليس بالأمر الصعب، إذا عرف الشخص الطريقة الصحيحة لتعلم اللغة الألمانية، هذه الطريقة سأذكرها بشكل مفصل لاحقا. 

وأما النقطة الثانية، ألا وهي فهم المنطق والتفكير الألماني، فهذه أصعب المهام، وقد تستغرق منك سنوات عديدة. فالتفكير الألماني بوجه الخصوص مختلف جدا عن التفكير الشرقي الذي تربينا عليها منذ الصغر. بل وإنه يختلف عن التفكير الأوروبي بوجه العموم. فالألمان لديهم نظام حياة شديد الخصوصية ويتمحور حول نقاط معينة قد تكون للبعض خارجة عن المألوف. طريقة التعامل مع الآخرين، أو الآداب المتعارفة بينهم وبين الآخر، الأفكار المتعلقة بالمال، بالطعام، بالعمل، والعائلة والصداقة. كلها مبادئ وأعراف جديدة غريبة علينا ولكن الألمان يعتبرونها من المسلمات الطبيعية. 

بنهاية المطاف لكل حديث مقال. هذه مواضيع كثيرة ومتشعبة، خلاصة سنوات عديدة من الدراسة، العمل والتجارب، والتي أود مشاركتها معك عزيزي القارئ كمخلص لتجربة طويلة وناجحة. فمفتاح النجاح هو التعلم من تجارب الآخرين. الحياة تبدأ ككتاب أبيض الصفحات، أنت تكتبه وتملؤه بالتجارب والقصص، وكل هذه التجارب والقصص هي دروس نتعلمها بأنفسنا أو نعيشها ونسمعها من الآخرين. هناك ألف قصة وقصة، ومئات الآلاف من التجارب والدروس. كل هذا أود مشاركته هنا وتلخيصه، لأن التجربة الجيدة التي لا تلخص هي مجرد قيمة مهدورة لم يستفد منها أحد سوى مجربها. ولهذا قررت تلخيص رحلتي بشكل موضوعي واحترافي هنا، كي يستفيد منها أكبر قدر ممكن من الراغبين بخوض التجربة، ولغير الراغبين من محبي قراءة حكايات وتجارب السفر. 

إذا كنت مهتما بالاستماع إلى قصة رحلتي، أراك لاحقا في مقال آخر من الرحلة الألمانية… 

كل الحب، 

من قلب ألمانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *