القائمة إغلاق

ما الذي يجعل الحياة في ألمانيا تجربة استثنائية وفريدة من نوعها؟ ١

الحديث عن ألمانيا والتجربة الفريدة يطول ولا تكفيه مقالة واحدة، إنما عدة مقالات.. ولهذا أبدأ الموضوع هنا بالجزء الأول منه بالحديث عن الأنظمة والمعايير الألمانية.

ألمانيا بلد يحكمها نظام دقيق جدا ومعايير متعارف بها، حياة منظمة ويغلب عليها طابع الروتينية… وعلى هذا الصعيد، كنت جالسا في أحد الأيام مع زميل عربي لي وأخبرني أحد تجاربه عند تقديم معاملة ما في ألمانيا. 

في ألمانيا يعد إدراج البريد الإلكتروني (الإيميل) في المعاملات الرسمية وحتى غير الرسمية شيء أساسي، فتبادل البريد الإلكتروني في ألمانيا من أهم أساسيات التواصل في الحياة اليومية بعض النظر عن الطبقة الاجتماعية. 

هذا الزميل كان لا يزال يستخدم بريده الالكتروني الذي أنشأه في بلده منذ سنوات مراهقته، ولأنه كان يلقب دائما بـ الدكتور، نظرا لأن والده، وككثير من الأباء العرب، يتوقع من ابنه أو ابنته أن يصبح بأفضل الأحوال طبيبا أو مهندسا. ولهذا فإنه أسمى نفسه وقتها بكل مكان بالدكتور، في المنتديات، في تويتر وغيرها من مواقع التواصل وحتى عنوان بريده الإلكتروني 

dr.flanx41@xxxx.com

قد يرى هذا الشيء في بلادنا بشكل فكاهي، وبل وينم عن طموح الشخص.  

ولكن الوضع اختلف قليلا في ألمانيا، حيث أنه أخبرني أنه مرة من المرات وخلال إحدى إجراءات تقديم معاملة للدراسة في ألمانيا، قد رفضت الموظفة قبول بريده الإلكتروني عندما وجهت له السؤال: 

كيف تخبرني بأنك تحمل درجة الدكتوراه وأنت تقدم الآن معاملة تبين بأنك تستعد لدراسة درجة البكالوريوس بالجامعة؟ وضعك لكلمة دكتور في بريدك الإلكتروني يعطي انطباعا بأنك حامل لدرجة الدكتوراه وهذا قد يسبب لبسا في مصداقية البيانات. 

ولهذا أجبرته على استخدام بريد إلكتروني آخر. 

البيروقراطية كأساس 

ومثال كهذا يعتبر حالة ليست بفريدة من نوعها في عالم البيروقراطية الألمانية التي يستثقلها حتى أهل البلاد أنفسهم. 

فالبيروقراطية الألمانية لا تنعكس فقط على الحياة الرسمية والمعاملات الحكومية إنما أيضا تنغمس بشكل أعمق في صفوف المجتمع والعادات اليومية. 

فلكل حالة وقضية قواعد ومعايير معينة، وصدقني فإن الأنظمة والمعايير في ألمانيا قد فكرت في كل حالة وموقف ووضعت له قواعد وأسس وأعراف يمشون عليه ويبنون عليها قراراتهم، وأي فعل ردة فعله تخالف القاعدة، لا يتم العمل به بغض النظر عن الجانب الإنساني. 

فإن لكل شيء قوانين وأعراف، قوانين في الدراسة والقيادة والتنقل بالمواصلات، بل وإن هناك قوانين لاستخدام الصالات الرياضية والمكاتب. فإذا كنت تقود دراجتك الهوائية في مسار غير مسار الدراجات، فإن جميع من في الشارع سيستاء منك، كبارا وصغارا، بل وربما ستشتمك العجوز على الجهة الأخرى من الطريق لأنك أخرق وسوف تتسبب بقتل أحد ما! 

من اعتاد على الحياة البسيطة، التي تمشي على مبدأ “البركة” والحظ والعفوية في مجريات الأمور، فإنه سوف يلقى ما لا يسره إن لم يلتزم بقوانين المعيشة في ألمانيا. مثلا أن تظهر لموعد حكومي دون إحضارك لورقة واحدة مطلوبة لأنك نسيتها رغم جاهزيتك التامة واحضارك للـعشرين ورقة المطلوبة منك، فإنك تعد بهذه الحالة بسبب هذه الورقة الواحدة مخلا للشروط ولا مانع عند الموظف من تأجيل موعدك إلى شهور عديدة حتى استكمالك لهذه الشروط. 

لكل إجراء وعملية هناك شروط يجب استكمالها، ولا يوجد على هذه الأرض ما قد يشفع لك، حتى استكمال الشروط. 

معايير في الحياة اليومية

وحتى بين الألمان أنفسهم هناك أعراف وقوانين ومعايير يلتزمون بها بشكل صارم. فكثير منهم يديرون حياتهم اليومية بناءا على ما يمليه عليهم تقويم مواعيدهم على الهاتف أو المذكرة الصغيرة في حقيبة الظهر. فيسبق تقريبا كل شيء في ألمانيا حجز موعد مسبق، وتأخرك عن الموعد أكثر من ١٠ دقائق قد يعني بان الموعد لاغ، ويعني أيضا استهتارا وتقصيرا، بغض عن النظر عن المشاكل التي تكون قد واجهتك على الطريق، والاف الأعذار التي قد تبتكرها مما قد تدمع له العين. تأخرك عن الموعد لا يعني شيئا سوى أنك مقصر. وقد أخبركم أيضا بأن إخلالك بالنظام حتى عند عدم رغبتك بالوقوف في طابور أمام مخبز يعد جريمة بحق المنتظرين ولن يغفرها لك أحد.

بعد سنوات عديدة قد يجتازك الشعور بأن الألمان أنفسهم لا يرغبون بالعيش دون قوانين ونظام، فالقوانين تساعدهم على ترتيب حياتهم اليومية والعيش بشكل أفضل لأن المسلمات تصبح كثيرة مما يجعل إدارة الحياة عملية أسهل. بل ومن دافع تجربتي الشخصية فإن هذه القوانين تجعل إدارة الحياة فعلا أمرا شديد البساطة، لأن المتغيرات تصبح شيئا نادر الوجود وشاذا عن المعتاد. 

فإن كل ما تحتاجه لإدارة يومك هو تقويم يومي ومواعيد واضحة، نظام موحد ودقيق لمواعيد لمواصلاتك، وعنوان ثابت ونظام لوجسيتكي واضح لمشترياتك. 

مثال على المسلمات والمعايير: خط المشاة

بعد سنوات عديدة من العيش في ألمانيا يعتاد على الحياة المنظمة وخصوصا على أنظمة الشوارع وحقوق المشاة. فدائما ما اقطع الشارع عن طريق خط المشاء دون الالتفات إلى السيارات القادمة عن يميني أو يساري نظرا لأن خط المشاة يعطيني الأولوية المطلقة والتي سيلتزم بها الجميع سائقي المركبات والمشاة في ألمانيا، فهي قاعدة معروفة وويلاه لمن يكسرها! 

و في هذا المقام أذكر قبل عدة شهور زيارتي لأحد البلدان (غير الأوروبية)، كنت وقتها أستمع للموسيقى راغبا في قطع الشارع إلى الجهة المقابلة. سعدت كثيرا عندما رأيت خطا للمشاة حديث الطلاء وواضح المعالم ورغبت فورا بقطع الشارع عن طريقه ودون اكتراث، ظنا مني بأن جميع السيارات العابرة ستقف احتراما لخط المشاة واحتراما لحق الماشين على الاقدام تحت شمس الظهر الساطعة. ولكنني ما كدت أقطع المتر الأول حتى بدأت اسمع صوت سحرجة المكابح و الأبواق والمزامير من السيارات التي يعلوها صوت الشتائم، بل وقد صرخ أحدهم من النافذة: أيها الأحمق الأخرق، هل تريد أن تموت؟ 

فوقفت بمنتصف الطريق مشيرا إلى خط المشاة بنظرة ثورية كوني صاحب حق فرضه قانون المرور، متوقعا من السائق أن يستحي على شيبته، ولكنه بات بعدها يشتمني ويشتم خط المشاة أيضا. 

خط المشاة وضع كي يحمي المشاة

“أيها الأحمق الأخرق، هل تريد أن تموت؟” 

في الواقع لا، فإن استخدامي لخط المشاة يعني تماما عكس ذلك. فخط المشاة وضع هناك في الشارع كي يضمن لي في شارع مكتظ بالسيارات حق العبور، وتعجبت يومها من كون السائق في ذلك اليوم لم يحترم حقي هذا بل وصار يناقشني في حقي وكأنني أنا صاحب الخطأ، بل ولو صعدنا الأمور لنزلوا من سياراتهم وضربوني حتى لا أتمكن من استخدام خط المشاة مرة أخرى في حياتي.

بعد سنوات عديدة من تجربة العيش الفريدة من نوعها في مصفوفة من الأنظمة والقوانين في ألمانيا، فإنك تعتاد على هذه القوانين وكأنها مسلمات في عقلك الباطن. في أي مدينة في ألمانيا تستطيع قطع الشارع مستخدما خط المشاة 

مستمعا للموسيقى أو عابثنا بهاتفك النقال، وربما قد تكون أعمى وغير مبصر ولن يكون لديك أدنى شك بأن أحدا سيسرق منك حق عبور الطريق. 

ونظرا لأهمية القواعد والمسلمات المنطقية، مثلا كـ قواعد المرور العامة، فإن التبعات الإيجابية يمكن ان نراها بناء على دراسات وأرقام، فنلاحظ مثلا أن عدد الوفيات جراء حوادث السير في أوروبا في عامي ٢٠١٣ و ٢٠١٦ قليل مقارنة بأماكن أخرى من العالم بل وأنه يتحسن عام بعد عام 

WHO 2018: Global status report on road safety 2018. Genf: World Health Organization

هل كثرة القوانين والمعايير مزعجة؟ 

عندما تكون قادما من بيئة مختلفة تماما عن البيئة الجديدة التي يجب عليك التأقلم عليها كي تكون قادرا على إدارة حياتك بشكل أفضل، فإن التأقلم على كثرة الأنظمة والقوانين بالشارع، والتسوق والرياضة والدراسة وحتى العمل قد يشكل تحديا، لأن الطابع الأول الذي قد يسيطر عليك بأنه لا مجال للخطأ. فلأول مرة لك في بيئة جديدة سيكون كل خطأ محسوب وسيحسب عليك وله عواقب كان بإمكانك تجنبها ببساطة. ولكن وجود القوانين التي تعطي لكل شيء قاعدة عامة، هو شيء أساسي في الحياة في ألمانيا بل وأنه ومفيد ولن يكون مزعجا كل ما تقدمت في عملية التأقلم. 

ولهذا فإن هناك كلمة ومبدأ مشهور جدا في ألمانيا لوضع قواعد متعارفة عامة، وهذا يسمى بالألمانية: die Norm أي القاعدة المتعارفة، شبيه بكلمةstandard  الإنجليزية.

الهيئة الألمانية لتوحيد المقاييس والمعايير

https://www.din.de/en

بل وإن في المانيا هيئة كاملة لوضع القواعد المتعارفة والمعايير وتسمى بـ DIN Deutschen Instituts für Normung 

أو  German national organization for standardization

وهي هيئة رسمية مختصة في وضع القواعد والمقاييس أو الـ ستاندردز التي تتكل عليها الكثير من القطاعات الخاصة والحكومية لوضع مقاييس ومعايير موحدة يتعامل بها الجميع. وهو المسمى بمعيار DIN هو معيارتم تطويره تحت إشراف المعهد الألماني لتوحيد المقاييس، حيث يتم توحيد معايير للمواد والأشياء المادية وغير المادية.

الحياة في ألمانيا تجربة فريدة من نوعها

ألمانيا هي دولة بنيت نتيجة للعمل الجاد والمثابرة والالتزام بمعايير وأنظمة وضعوها لأنفسهم، فالبلاد لم تحتوى وقتها ثروات طبيعية كي تركتز عليها، إنما كل ما كان لديهم هو الأيدي العاملة والعقول المفكرة والمعايير العالية.  

كـ عربي قادم من طبيعة يغلب عليها الطابع البسيط والحياة الصحراوية التي تحكمها ظروف ومسلمات مختلفة تماما تعتمد كثيرا على مجريات الأمور، ثم أن تعيش في مكان مثل ألمانيا اعتاد قومه على نظام حياة صارم يغلب عليه طابع العمل المستمر والدقيق، ومعايير عامة لا يجوز الشذوذ عنها فسوف تحاول التأقلم مع هذه الموجة الكبيرة من الالتزام بالدقة، بغض النظر إن كانت هذه دقة المواعيد أو حتى الدقة في إنجاز أعمال معينة، ولكن و بنهاية المطاف سوف تدرك أن التجربة الألمانية في إدارة الأعمال هي تجربة ناجحة جدا يستطيع المرء الاستفادة منها على مستويات كثيرة، فهي تجربة قد ظهرت من خلالها إحدى أكبر دول الصناعة والتصدير عالميا، تجربة أخرجت منتجات صناعية يشهد العالم كله بدقتها وكفاءتها. هي تجربة ساعدت على قيام بلد بأكمله خلال 60 عام من ركام الحرب العالمية الثانية إلى أقوى البلاد الصناعية في العالم.  وإن لم يستطع المرء الاستفادة من هذه التجربة بأفضل وجه، فهي خسارة كبيرة جدا على المحمل الشخصي. ، نظرا لكونها تجربة فريدة وثرية جدا. الذي يجعل تجربة الحياة في ألمانيا تجربة فريدة جدا ليس سبب واحد أو اثنان، إنما مصفوفة كاملة من الأسباب التي يسعدني إكمال الحديث عنها في مقام آخر، في مدونات أخرى وفي حلقة البودكاست القادمة. 

تحياتي، \

من قلب ألمانيا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *