في أحد الأيام بعد محاضرة في الديناميكا الحرارية حدثني البروفيسور بشكل شخصي ووجه أسئلة شخصية للتعرف علي بشكل أوضح نظرا لكوني العربي الوحيد في مجال يعتبر في ألمانيا من مجالات الهندسة المعقدة نوعا ما، ثم أصيب بالدهشة عندما أخبرته بأنني قد تعلمت الألمانية منذ سنوات قليلة حيث أردف بسرعة قائلأ: لقد ظننت بأنك من مواليد ألمانيا، لهجتك ممتازة بل وشبه خالية من الخطأ. أتعلم أن جيراني الأجانب يعيشون في ألمانيا منذ ما يزيد عن ١٣ عاما ولا يجيدون اللهجة واللغة الألمانية بنفس هذه الجودة، كيف تعلمتها بهذا الشكل؟
لغة للأدباء والمفكرين
ليس من الخفي بأن الشعب الألماني شعب يعتز بلغته بشدة، بل ولا يكاد الألمان الكف عن ترديد العبارة التالية عن لغتهم قائلين بفخر:
„Sprache der Dichter und Denker“
أي „لغة الشعراء والمفكرين“.
وهذا وصف عادل جدا للغة الألمانية، كون ألمع الأدباء، والفلاسفة والمفكرين في العالم الحديث كانوا يتحدثون الألمانية بل ونشروا أغلب أعمالهم باللغة الألمانية، مثل الفلاسفة ايمانويل كانط، نيتشه، هيقل، شوبنهاور وحتى أكبر فلاسفة الاقتصاد العالمي ومؤلف كتاب (رأس المال) الغني عن التعريف، كارل ماركس.
ناهيك عن أسماء لامعة في علوم مختلفة في الفيزياء والكيماء وغيرها، مثل ألبرت أينشتاين، ماكس بلانك، هايزنبرج، وحتى رونتجن مبتكر الأشعة السينية التي نستخدمها يوميا في المستشفيات للكشف عن كسور العظام وغيرها.
ولن ننسى الموسيقى الكلاسيكية حيث تلمع أسماء ألمان مثل بيتهوفن، وباخ وشتراوس وأدباء وصلت كلمتهم وقصتهم إلى العالم أجمع مثل جوته وشيلر وهريمان هيسه… ويزداد الامر دهشة حيث أن العالم كله قد سمع يوما ما بقصص بياض الثلج والأقزام السبعة، أو سندريلا وغيرها من قصص رافقت كل أطفال العالم.. ومن لم يقرأ يوما رواية „العطر“ العجيبة لباتريك زوسكيند؟!
ولهذا فإن وصف اللغة الألمانية بأنها لغة مميزة ولغة للمفكرين والأدباء والفلاسفة ليس وصفا مبالغا به، فالحقائق التاريخية والأدلة العلمية والأدبية لا تظهر خلاف ذلك.
ولكن ما السر في بروز اللغة الألمانية في كل المجالات، بل وفي تميز الألمان بمجالات عديدة، وهل هناك رابط بين اللغة الألمانية والتميز الأدبي والعلمي؟
قبل التطرق إلى هذا السؤال والإجابة عليه، سأجيب على سؤال البروفيسور أولا بشكل شخصي:
إتقان اللهجة جزء مهم من تعلم أي لغة
السر في جودة تعلمي للغة الألمانية وإتقاني للهجتهم هو أنني في أيامي الأولى وحتى قبل بدء الرحلة الألمانية كنت انطلق يوميا للجري لساعات طويلة وخلالها كنت استمع طيلة الوقت من هاتفي المحمول أثناء الجري إلى محادثات مسجلة باللغة الألمانية، فقط بهدف التقاط اللهجة وترتيب الجمل ذهنيا، حتى لو لم أكن أفهم شيئا كنت أردد الجُمل مرارا وتكرارا محاولا اقتباس وتمثيل اللهجة بحذافيرها. حين وصلت إلى ألمانيا اكتشفت أن تلك المحادثات التي كنت أستمع لها بلا تركيز أثناء الجري هي الجمل التي بقيت في ذاكرتي وانقذتني في مواقف كثيرة خلال رحلتي بل واستطعت تقليد اللهجة بشكل ممتاز. ونظرا لأن هذه المحادثات كانت مسجلة من متحدثين ألمان بلغتهم الأم وبلهجة نظيفة وواضحة، ساعدني هذا الأمر بالتدرب على اللهجة الألمانية لدرجة أنني بعد شهور قليلة أتقنت اللهجة الألمانية مما جعل التفريق بين لهجتي ولهجة المتحدث باللغة الأم مثلا من خلال مكالمة هاتفية صعبا بعض الشيء.
إتقان اللهجة الألمانية ليس موضوعا جانبيا وإنما مهم جدا نظرا لحوزة اللغة الألمانية على حروف صوتية نغمية تسمىUmlaut أي أنها حروف إمالة تغير نطق الكلمة ومعناها، مثلها مثل الضمة والكسرة والشدة باللغة العربية. ولهذا فإن إتقان اللهجة الصحيحة يساعد الناس على فهمك بشكل أسرع وأوضح.
فكلمة أخ بالألمانية هي Bruder وأما في حالة الجمع فإن الكلمة تصبح Brüder
وما تغير في الكلمة هو فقط طريقة نطقها وإضافة نقطتين على أحد الحروف.
ومن الجدير بالذكر أن للغة الألمانية لهجات عديدة تماما مثلها مثل تعدد اللهجات العربية. فـ لهجة أهل برلين تختلف عن لهجة أهل الوسط. ولهجة أهل الجنوب تختلف تماما عن لهجات باقي البلاد فهي تشتهر بحدتها، وسرعتها وبداوتها. فإن اللهجات الألمانية تتأثر أيضا بالطبيعة المحيطة بالفرد وبالتاريخ التي حظيت به المنطقة. فستجد مثلا أن لهجات مدن الغرب وعاداتهم في ألمانيا متأثرة بعض الشيء بقرب الولايات من فرنسا. وتعدد اللهجات الألمانية قد يسبب صعوبة للفرد الألماني شخصيا بالتعامل مع اللغة عندما يتحدثها ألماني مثلا بلهجة الجنوب الحادة.
اللغة الألمانية ليست لغة قبيحة!
ربما قد سمعنا كثيرا في محيطنا الاجتماعي أن اللغة الألمانية لغة خشنة جدا وصعبة. الكثير من مقاطع الفيديو الفكاهية في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفيديو الظاهر أدناه التي تظهر اللغة الألمانية على أنها لغة غير صالحة للحديث أو التواصل. ولكن وبعد تجربتي الشخصية كعربي تعلم اللغة الألمانية من الصفر، اقتنعت تماما بأن هذه اللغة من أجمل لغات العالم وأكثرها دقة. مما قد يجعل اللغة تبدو خشنة بعض الشيء هو خاصية تختص بها اللغة الألمانية، بأن كل الحروف المكتوبة تنطق، بخلاف الفرنسية مثلا، حيث أن كثير من الحروف التي تحتويها الكلمة هي حروف صامتة. ولهذا فإن نطق جميع حروف الكلمة قد يعطي انطباعا بأن الكلمات غير متناغمة.
سر تميز اللغة الألمانية
عندما أعود للسؤال المطروح قبل قليل عن سر تميز الألمان وعلاقة ذلك بلغتهم، أتذكر مقولة مشهورة لمارك توين عندما قال عن اللغة الألمانية:
“Never knew before what eternity was made for. It is to give some of us a chance to learn German.”
“لم أفهم من قبل عن سبب وجود الحياة الأبدية، والآن فهمت بأنها موجودة كي نستطيع تعلم اللغة الألمانية“
بل وأنه بعد زيارته لمدينة هايدلبرغ بألمانيا لتعلم اللغة الألمانية كان قد ألف كتابا هزليا كاملا عن اللغة الألمانية أسماه (اللغة الألمانية المرعبة) حيث دون هناك معاناته غير المجدية لتعلم هذه اللغة. بل وأنه قد وصف اللغة الألمانية بأنها لغة للموتى، فالموتى هم الوحيدون الذين يمتلكون الوقت الكافي لتعلمها.
ولكنني صدقا قد أخالف مارك توين في كثير من توجهاته الساخرة تجاه اللغة الألمانية، وأعيد معاناته على أسباب كثيرة أهمها أنه تجربته كانت في عام ١٨٨٠ميلادية، أي أنه كان قد بلغ ٤٥ عاما من العمر، وبهذه المرحلة العمرية فإن تعلم لغة شديدة التشعب ومعقدة البنيان كاللغة الألمانية قد يشكل تحديا كبيرا، حتى لمارك توين نفسه.
وعندما قال مارك توين ساخرا بل ومخوفا للكثيرين من الراغبين بتعلم اللغة الألمانية “بإمكان إنسان موهوب أن يتعلم اللغة الإنجليزية في ٣٠ ساعة، والفرنسية في ٣٠ يومًا والألمانية في ٣٠ عامًا” تمنيت لو كان بإمكاني الرد وعرض تجربتي الشخصية عليه، حيث أنني أتقنت اللغة الألمانية بشكل ممتاز بأقل من خمسة أعوام مطمئنا الكثيرين من الراغبين بتعلم هذه اللغة ذات الأهمية ورغبة مارك توين بتعلم اللغة الألمانية بحد ذاتها دلالة على أهمية هذه اللغة.
عندما نتحدث عن أسباب تميز هذه اللغة فيخطر على بالي بنيان وهيكلة اللغة الألمانية، فاللغة الألمانية تتميز بميزة لم أجدها بأي لغة أخرى أجيدها، العربية أو الإنجليزية أو حتى الإسبانية، بأنها لغة تحليلية تساعدك على الوصف الدقيق جدا دون جهود لغوية إضافية. فمثلا باللغة العربية فإن الإيجاز مطلوب ومحبوب، فنقول دائما بأن خير الكلام ما قل ودل، فنحاول تلخيص كلامنا وإيجازه لإيصال الهدف بأقل عدد ممكن من الكلمات. مما يميز اللغة الألمانية بأن اللغة بحد ذاتها دقيقة وموجزة بذات الوقت، فمثلا لوصف شيء معين تلجأ اللغة الألمانية لدمج عدة كلمات في كلمة واحدة، وبهذا تجمع الدقة والإيجاز. مثال على ذلك هو كلمة تصف الشخص الذي ينوب عن شخص ما في حالة غيابه. فكلمة نيابة بالألمانية هي Vertretung وكلمة مكانة هي Stelle وعندما نلجئ لوصف هذا الشخص فإنه الكلمة تصبح Stellvertreter، أي الممثل أو النائب عن هذا الشخص في مكانه. وهكذا هي الألمانية، عبارة عن مفردات تتوالد منها مفردات أخرى. بل وإن المفردة الواحدة يمكن تغيير معناها عن طريق ربطها بحروف جر معينة.
فكلمة schlagen تعني بالألمانية الضرب، أي ان تضرب أحدهم. ولكن كلمة (vor)schlagen تعني النصيحة، أي أن تنصح بشيء ما.
ومن أكبر التحديات للمتعلم أن هناك أداة تعريف (ال التعريف) مختلفة لكل كلمة، فالأشياء بالألمانية لها أجناس مختلفة، فهناك أشياء مذكرة، مؤنثة ومحايدة. وهذه الأدوات التعريفية هي der, die, das.
der = تعريف المذكر
die = تعريف المؤنث
das = تعريف المحايد
فالتفاحة بالألمانية مذكرة، der Apfel
والباب مؤنث، die Tür
والسيارة محايدة، das Auto
وهذا التقسيم يزيد بلا شك صعوبة تعلم اللغة، خصوصا لشخص عربي يمتلك أدوات تعريف محدودة كـ ال الشمسية والقمرية، وعاش طيلة حياته مسلما بأن التفاحة غالبا مؤنثة. ولكن هذا التقسيم الجنسي للأشياء باللغة الألمانية يزيد دقة اللغة في الوصف ويزيد صعوبتها عند ممارسة قواعد اللغة، لأن أداوت التعريف هذه تتغير مع تغير الحالة الإعرابية للكلمة كان نرى في الجدول التالي:
ومن وجهة نظري الشخصية، بأن لغة كهذه شديدة الدقة في الوصف والتفصيل واختيار المفردات تعتبر مادة غنية جدا للكتابة، خصوصا للفلاسفة، فإنني أتخيل أن طرح فكرة فلسفية معقدة بلغة بها مساحة كبيرة جدا للتلاعب بالكلمات والشرح الدقيق المفصل كاللغة الألمانية أسهل بكثير من محاولة طرحها بلغة تعتمد على الإيجاز والأسلوب الشعري كاللغة العربية.
ولكن خفايا اللغة الألمانية تتشعب كثيرا جدا، حيث أن مقالة واحدة ليست كافية لأطروحة كهذه… ويبقى السؤال مفتوحا، عن سبب تميز الألمان في مجالات عديدة جدا، ولكشف خفايا وأسرار هذا التميز، سأكتب المزيد!
إذا كنت ترقب المقالة القادمة!
تحياتي من قلب ألمانيا..