الأيام الأولى في ألمانيا واللغة الألمانية،
ربما من أكثر المشاعر غرابة في الغربة هي القدوم الأول، ومحطة القدوم الأولى. عندما تصل إلى محطتك الأخيرة في رحلة الذهاب إلى ألمانيا تجتاحك رهبة عظيمة. ليس عند هبوطك في المطار، فالمطارات تشبه بعضها البعض في كل مكان. إنما أتحدث عن اللحظة التي ترى بها الناس الجدد، وبالتحديد ذاك الشخص الأوروبي الذي لطالما سمعنا عنه. أشخاص ببشرة فاتحة وعيون وشعور ملونة، وجوه سمحة غير مألوفة. الملاحظة الأولى التي تخطر على البال كانت: لماذا ملابسهم ملونة بهذا الشكل؟ نعم، فالشخص الألماني يرتدي بالعادة ملابس عشوائية، ملونة، تختلف حسب الفصول، فترى أحدهم بقبعة صوفية حمراء، كنزة صوفية خضراء يعتليها معطف طويل اصفر فاقعٌ لونه، وجينز وحذاء جلدي قديم، بل وربما من محلات الملابس المستخدمة. ف متاجر السكند هاند ( second hand shops ) هي ثقافة متداولة بين الألمان. فالألمان يؤمنون بما يسمى بالـ Nachhaltigkeit أو ما يسمى بمبدأ الاستدامة حفاظًا على البيئة وتوفيرا للمال.
أي يعني أن شراءك لمعطف شتوي مستعمل أفضل بكثير من شراءكلمعطف جديد حفاظًا على البيئة والطاقة. فالشخص الألماني بطبعه يحترم التوفير جدا، بل وإن كلمة sparen ، شبارن، أي التوفير هي من أكثر الكلمات استخداما في ألمانيا عندما يتحدث أحدهم عن المال والشراء، فالتوفير في ألمانيا يعتبر شيئا إيجابيا جدا.
التوفير أولا ، في ألمانيا
ففي كثير من الأحيان وعلى سبيل المثال قد يقف أحدهم في صف طويل في متجر المواد الغذائية، حاملا عنقود العنب المخفض ١٠ سنتات، فيتفاجئ عن المحاسب بأنه قد أخذ عنقود العنب الخاطئ وأن تخفيض ال ١٠ سنتات لا ينطبق عليه، فيعيد هذا الشخص عنقود العنب إلى مكانه ويذهب إلى داره دون عنقود العنب، لأنه وعند شراءه لعنقود العنب كان قد ظن بأن عنقود العنب هذا يستحق الشراء نظرا لتوفيره ١٠ سنتات، ودون هذا التخفيض فإنه لا يوجد داع لأكل العنب.
ولكن فلنتوقف هنا عن ضرب الأمثلة ولنعد للمشاعر… نعم، تلك المشاعر الأولى.. من أهم تلك المشاعر هو شعورك عند الخروج من بوابة المطار نازلًا عنطريق سلم كهربائي إلى تحت الأرض لتركب قطارا تحت الأرض يوصلك إلى مدينتك المقصودة، وهذا قد كان شيء غير معهود لي كـمراهق في بداية عمره لميرى من العالم إلا قليلًا. فأنا كنت وقتها قد عهدت عالمنا كله فوق الأرض، النزول تحت الأرض لم يكن خيارا لاقيته كثيرا في حياتي السابقة.
اللغة كعقبة أولى،
ومن الرهبات الأولى هي الرهبة التي تجتاحك بسبب الطبيعة المحيطة بك. فتلك الكمية من خيوط الخضار المستمرة التي بدت تتسابق خلال ناقذة القطارالمنطلق بسرعة ١٥٠ كم/ساعة كانت كمية خضار لم أعهدها من قبل قادما من مدينة عربية صحراوية الطبيعة.
“Ihre Fahrkarte bitte? “
تردد الصوت خلف أذني، ولم أكن أعلم أنني سأسمع هذه العبارة عشرات المرات لاحقا في رحلتي الألمانية… أدرت وجهي وكانت سيدة شقراء ألمانية ترتديزي العمل وتحمل جهازا الكترونيا.
لم أفهم ما تقصد. وهنا بدأت أولى الصعاب… اللغة.
حتى حدثتها بالانجليزية وفهمت منها بأنه تريد رؤية تذكرة القطار الخاصة بي.
فتذاكر القطار هنا في ألمانيا حكاية طويلة لها بداية وليس لها نهاية. المواصلات العامة في ألمانيا تعتبر باهضة الثمن بعض الشيئ مقارنة بدول أوروبية عديدة مثل إيطاليا أو بولندا مثلا. وسبب وجود المفتشين في القطارات، هو لجوء الكثير من الناس إلى ما يسمى بالسفر الأسود أو schwarzfahren أي أن تركب القطار وتتنقل به من مكان إلى آخر دون شراء تذكرة وبشكل غير قانوني. عندما وصلت إلى ألمانيا قبل عدة سنوات كانت الغرامة قد تصل إلى ٤٠ يورو وأما في يومنا الحالي فإن غرامة السفر الأسود تقارب ٦٠ يورو، مع العلم بأن تكلفة التذكرة الواحدة قد تقارب ٣ يورو. ولكن فلنعد إلى الحديث عن اللغة..
يعتقد الكثير من الناس وربما على مستوى عالمي بأن اللغة الألمانية لغة “دفشة”، وعرة وهمجية ولكنني شخصيا لم أرى سوى عكس ذلك بالسنوات الماضية.ربما فقط هو مظهر الكلمات وطولها ما قد يشكل مشكلة للكثيرين من الأجانب في نطقها او استيعاب فكرة نطق كلمة واحدة بنفس واحد.
مثلا ككلمة:
Änderungsschneiderei
إندارونغزشنايدراي – محل الخياطة
أو ربما كلمة من ٦٣ حرفا مثل:
Rindfleischetikettierungsüberwachungsaufgabenübertragungsgesetz
ريندفلايش ايتكتيرونقزاوبرفاخونقز اوفقابناوبرتاراقونقزقسيتز – قانون تفويض مهام مراقبة وسم لحوم البقر
ولكن بغض النظر عن طول هذه الكلمات فإن التحدث باللغة الألمانية شيء جميل ورقيق جدا ببعض الأحيان. يكفيك مثال على ذلك الأغنية الألمانية
Du fehlst mir
للمغنية الألمانية
Anette Louisan
في هذه الأغنية يتجلى الهدوء والجمال التام للغة الألمانية. بل وأكثر ما أعجبني باللغة الألمانية كوني متحدثا طلقا بها، هو ميزة تتميز بها اللغة الألمانية دون غير من اللغات، ألا وهي إمكانية الوصف الدقيق.
لغة الفلاسفة والأدباء،
إذا كنت تتحدث الألمانية فستستطيع عن طريق هذه اللغة وصف حالات وقوانين ومشاهد بشكل دقيق جدا، بل وبأدق التفاصيل، نظرا لأن اللغة الألمانية تسمح لك بدمج كلمات كثيرة مع بعضها البعض لوصف حالة معينة كما رأينا بالأمثلة السابقة. ولهذا فإن اللغة الألمانية كانت لغة جيدة جدا في الفلسفة الحديثة، فالفلاسفة الألمان معروفون على مر التاريخ وغنيون عن التعريف. رغم تعقيد فلسفتهم، إلا أن اللغة الألمانية كانت أداة جيدة لشرح اطروحتهم بشكل كاف.
والآن أتطرق إلى رهبة أخيرة تمر بك عند الوصول الأول، ألا وهي الرغبة التي تجتاح المرء عند الوصول إلى مكان جديد تماما عليه. مكان لا تعرف به أحدا، مكان لا يتحدث الناس به لغتك، ولا يشاركونك ثقافتك. مكان تبدو به غريبا، لأن شكلك مختلف عن الآخرين. تلك الرهبة عندما تصل إلى محيط بيئي مختلف تماما عن المحيط البيئي والحيوي الذي نشأت به. فدرجات الحرارة مختلفة، نسبة الرطوبة، الحشرات والحيوانات، الأشجار والنباتات، والأطعمة والملابس، كل شيء مختلف تماما. وهذه الاختلافات تلعب دورا أساسيا في سلوك الشخص ومشاعره في اللحظات الأولى، فبنهاية المطاف لسنا سوى كائنات حية مثلنا مثل كل الكائنات الأخرى التي تعلقت بمكان معين ويصعب عليها في بادئ الأمر العيش في مكان آخر.
لحظات الوصول الأولى ورهبتها تجتاح مكان كبيرا من الذاكرة في رحلة التغيير. ولهذا فإن أهم العوامل التي يجب على المغترب الاهتمام بها، هو مكان الوصول الأول، فإن المنزل الأول الذي تعيش به والأشخاص الأوائل الذين ستعاشرهم سيلعبون الدور الأكبر في تقبلك للمكان الذي انتقلت إليه.
نهاية المحطة الأولى، بتبعها الوصول..
هذه الرهبات الأولى التي تواجه الشخص الذي قرر الانتقال إلى مكان جديد للعيش به مهمة جدا، ويجب على المرء قبل رحلتها العلم بأنها ستصادفه وستشغل حيزا كبيرا من مشاعره في البداية، ولهذا أردت الحديث عنها في هذه المقالة بشكل موجز وسريع قبل البدء بالحديث عن أولى محطات الرحلة الألمانية، مدرسة اللغة.
إذا كنت مهتما بمعرفة المزيد عن المحطات الأولى، عن تفاصيلها، وأهم الصعاب التي قد تواجهك بها، يمكنك مراسلتي بأسئلتك الخاصة وسوف أحاول التطرق إليها في حديثي القادم.
في ختام هذه المدونة قررنا مع فريق العمل إنتاج بودكاست شبه أسبوعي نتحدث به عن التجربة الألمانية وأهم المحطات والخطوات للوصول إلى طريق النجاح في ألمانيا خصوصا، وعن السفر والترحال بشكل عام، حديثا يتضمن عن أهم العقبات والصعاب وعن حكايات وخبرات السفر. هنا ستجدون الرابط للحلقة الأولى من بودكاست الرحلة الألمانية:
كونوا بخير،
تحياتي
من قلب ألمانيا